[سلسله دروس فقه اقتصاد / استاد محقق حاج شیخ محمد علی بهبهانی]
مقدمة:
قد تقدّم((في بحث «عموم الربا لأنواع العقود».)) في المباحث السابقة جریان الربا في الصلح، فلابدّ من الكلام حول أحكام الصلح و شرط تحقّق الربا فیه.
تعریف الصلح
إنّ الفيّومي قال في تعریف الصلح لغةً : الصلح و هو التوفيق.(( المصباح المنیر، الفیومي، مادّة الصلح، ج1، ص345.))
قال المحقق الحلّي(قدس سره): «هو عقد شرع لقطع التجاذب (أي التنازع)، و ليس فرعاً على غيره، و لو أفاد فائدته.» ((شرائع الإسلام، المحقق الحلّي، ج 2، ص 367.))
قال الفقیه الأعظم السید أبو الحسن الإصفهاني(قدس سره): «و هو التراضي والتسالم على أمر من تمليك عين أو منفعة أو إسقاط دين أو حقّ وغير ذلك و لا يشترط بكونه مسبوقاً بالنزاع و إن كان تشريعه في شرع الإسلام لقطع التجاذب و رفع التنازع بين الأنام و يجوز إيقاعه على كلّ أمر، و في كلّ مقام إلَّا إذا كان محرّماً لحلال أو محلِّلاً لحرام.»(( وسیلة النجاة، السید أبوالحسن الإصفهاني(قدس سره)، ج2، ص82.))
متعلّق الصلح:
إنّ الفقیه الأعظم السید أبا الحسن الإصفهاني(قدس سره) أفاد بیاناً وافیاً لأقسام متعلّق الصلح و قد تبعه في ذلك جمع من الأعلام؛ لجامعیة هذا البیان، و إلیك نصّ عبارته:
«متعلَّق الصلح: إمّا عين أو منفعة أو دين أو حقّ، و على التقادير: إمّا أن يكون مع العوض أو بدونه، و على الأوّل: إمّا أن يكون العوض عيناً أو منفعةً أو ديناً أو حقّاً، فهذه عشرون صورة كلُّها صحيحة، فيصحّ الصلح عن عين بعين و منفعة و دين و حقّ و بلا عوض و عن منفعة بمنفعة و عين و دين و حقّ و بلاعوض و هكذا.» ((وسیلة النجاة، السید أبوالحسن الإصفهاني(قدس سره)، ج2،ص83، مسألة 5.))
أمّا أدلة علی جواز إیقاعه علی کل أمر:
الدلیل الأوّل: الكتاب
قوله تعالى: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً والصُّلْحُ خَيْرٌ) (( البقره (2): 229.))
الدلیل الثاني: السنّة
الروایة الأولى: صحيحة حفص بن البختري:
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ(علیه السلام) قَالَ: الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ. ((الکافي، ج5، ص259، کتاب المعیشة، باب الصلح، ح5؛ تهذیب الأحکام، ج6، ص208، کتاب الدیون و الکفالات، باب83، ح10،( رواه بإسناده عن علي بن إبراهيم مثله)؛ وسائل الشیعة، ج18، ص443، کتاب الصلح، باب3، ح1.))
الروایة الثانیة: صحیحة سلمة بن کهیل:
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيّاً(علیه السلام) يَقُولُ لِشُرَيْـحٍ… وَ اعْلَمْ أَنَ الصُّلْحَ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحاً حَرَّمَ حَلَالاً أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً… ((الکافي، ج5، ص259، کتاب القضاء و الأحکام، باب أدب الحکم، ح1؛ من لا یحضره الفقیه، ج3، ص15، أبواب القضایا و الأحکام، باب آداب القضاء، ح3243، ( رواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن محبوب نحوه إلا أنه ترك ذكر الصلح)؛ تهذیب الأحکام، ج6، ص226، کتاب القضایا و الأحکام، باب88، ح1،( رواه محمد بن الحسن بإسناده عن علي بن إبراهيم نحوه)؛ وسائل الشیعة، ج27، ص212، کتاب القضاء،أبواب آداب القاضي، باب1، ح1.))
أمّا السند: فصحیح عندنا بالصحّة القدمائیة، لأنّ الحسن بن محبوب من أصحاب الإجماع، أمّا عمرو بن أبي المقدام فهو ثقة و لکن أبوه و هو ثابت بن هرمز زیدي بتري و لم یوثق، و لکن ذلك لا یضرّ بصحّة الروایة خصوصاً على ما ذهب إلیه المحقق النائیني(قدس سره) من حجیّة روایات الکتب الأربعة سیّما الکافي ((أجود التقریرات، الطبع القدیم، ج2، ص258.))، و سلمة بن کهیل من الأصحاب الخاصّ لأمیر المؤمنین(علیه السلام).
الدلیل الثالث: الإجماع
الدلیل الرابع: سیرة المتشرّعة
هل الصلح عقد مستقلّ أو یرجع إلى سائر العقود؟
النظریة الأولى: للشیخ الطوسي(قدس سره)
إنّ المستفاد من ظاهر كلام الشیخ(قدس سره) في المبسوط هو أنّ الصلح لیس عقداً مستقلاً، حیث إنّه جعل الصلح فرعاً لسائر العقود ، فإنّه قال: «الصلح ليس بأصل في نفسه و إنّما هو فرع لغيره و هو على خمسة أضرب:
أحدها: فرع البيع؛ و ثانيها: فرع الإبراء؛ و ثالثها: فرع الإجارة؛ و رابعها: فرع العارية؛ و خامسها: فرع الهبة.» ((المبسوط، الشیخ الطوسي(قدس سره)، ج2، ص288. ))
النظریة الثانیة: للعلَّامة الحلّي(قدس سره) و هو المختار
«الصلح عند علمائنا أجمع عقدٌ قائمٌ بنفسه و ليس فرعاً على غيره، لعدم الدليل على تبعيته على الغير، و الأصلح في العقود الأصالة.» ((تذكرة الفقهاء، العلّامة الحلّي(قدس سره)، ج2، ص177.))
أدلة النظریة الثانیة:
إنّ التحقیق یقتضي تمامیة نظریة العلّامة الحلّي(قدس سره) و الدلیل على ذلك أمور:
الدلیل الأوّل: ظهور الأدلّة في أنّ الصلح عقد مستقلّ، لأنّه لم یجعل الصلح في ظاهر الأدلّة متفرّعاً على عقد آخر.
الدلیل الثاني: سیرة المتشرّعة و الارتكاز العرفي، لأنّ العرف لا یرون الصلح من متفرّعات البیع أو الهبة أو غیرهما، بل الصلح عندهم عقد و قرار مستقلّ و إن كان مفیداً لفائدة سائر العقود، و الأمر في العقود تابع للارتكازات العرفیة.
الدلیل الثالث: الإجماع الذي ادّعاه العلّامة الحلّي(قدس سره).
ملاحظة على الإجماع المدّعی: إنّ خلاف الشیخ الطوسي(قدس سره) یوجب بطلان الإجماع المذكور.
الدلیل الرابع: إنّ الأصل هو كونه عقداً مستقلّاً، كما قال العلّامة(قدس سره): «الأصلح في العقود الأصالة».
الفرعان المترتّبان على أنّ الصلح عقد مستقلّ:
قد اتّضح أنّ مقتضی الأدلّة هو أنّ الصلح عقد مستقل، و له أحكام خاصّة به، فیتفرّع علیه أحكامه:
الفرع الأول: اشتراط القبول في عقد الصلح فإنّ الصلح عقد من العقود فيحتاج إلى الإيجاب والقبول مطلقاً، حتّى فيما أفاد فائدة الإبراء و إسقاط الحقّ على الأقوى، فإبراء المديون من الدين وإسقاط الحقّ عمّن عليه الحقّ و إن لم يتوقّفا على قبول من عليه الدين أو الحقّ لكن إذا وقعا بعنوان الصلح توقّفا على القبول.
الفرع الثاني: لزوم عقد الصلح فلا يفسخ إلّا بإقالة المتصالحين أو بوجود الخيار، حتّى فيما أفاد فائدة الهبة الجائزة.
إفادة الصلح لفائدة بعض العقود و الإیقاعات
إنّ الصلح یفید فائدة بعض العقود و الإیقاعات و إن لم یكن منها.
أمّا إفادته لفائدة البيع: هي في ما إذا كان متعلّقاً بعين بعوض، ولكن لا تلحقه أحكام البیع، فلا تجري فیه الخیارات المختصّة بالبیع و لا یشترط فیه قبض العوضین في ما تعلّق الصلح بمعاوضة النقدین.
و أمّا إفادته لفائدة الهبة: هي في ما إذا كان متعلّقاً بعين بلا عوض، من غیر أن يعتبر فيه قبض العين كما اعتبر في الهبة.
و أمّا إفادته لفائدة الإجارة: هي في ما إذا كان متعلّقاً بمنفعة بعوض.
و أمّا إفادته لفائدة إبراء المدیون: هي في ما إذا كان متعلّقاً بالدین الذي في ذمّة المدیون.
و أمّا إفادته لفائدة إسقاط الحق عمّن علیه الحقّ: هي في ما إذا كان متعلّقاً بالحقّ.
هل یلزم وجود العوض في صحّة عقد الصلح؟
إنّ الأعلام اختلفوا في ذلك، فهنا ثلاثة أقوال:
القول الأول: عدم لزوم وجود العوض
و هذا القول مختار الفقیه المحقّق السید أبي الحسن الإصفهاني(قدس سره) ((وسیلة النجاة، الفقیه المحقق السید أبوالحسن الإصفهاني(قدس سره)، كتاب الصلح، مسألة1.))و المحقق الخوئي(قدس سره) ((منهاج الصالحین، المحقق الخوئي(قدس سره)، ج2، ص192.))، و المحقق الگلپایگاني(قدس سره)(( هدایة العباد، المحقق الگلپایگاني(قدس سره)، ج1، ص406.)) و الأستاذ المحقق البهجة(قدس سره)(( وسیلة النجاة، الأستاذ المحقق البهجة(قدس سره)، ج1، ص511.))و المحقق السید محمد صادق الروحاني(( منهاج الصالحین، المحقق السید محمد صادق الروحاني مدّ ظلّه، ج2، ص210.))، و المحقق السیستاني ((منهاج الصالحین، المحقق السیستاني مدّظلّه، ج2، ص326.)) و المحقق الفیّاض مدّ ظلّهم((منهاج الصالحین، المحقق الفیاض مدّ ظلّه، ج2، ص387.)) و هو المختار.
القول الثاني: لزوم وجود العوض.
و هو مختار المحقق السید محمد الروحاني(قدس سره)، فإنّه قال في تعریف الصلح: «الصلح عقد شرعي للتراضي والتسالم بين شخصين في أمر من تمليك عين أو منفعة أو إسقاط دين أو حق أو غير ذلك بعوض.» ((منهاج الصالحین، المحقق السید محمّد الروحاني (قدس سره)، ج2، ص217.))
القول الثالث: الإشكال في لزوم وجود العوض
و هو مختار بعض الأساطین((منهاج الصالحین، للمحقق الخوئي(قدس سره) مع تعلیقات الأستاذ المحقق الوحید الخراساني مدّ ظلّه، ج3، ص221.))
أما مقتضی التحقیق في المسألة:
إنّ الصلح عرفاً یعّم ما لاعوض له و ما له العوض و إنّ اطلاق أدلة إیقاع الصلح یقتضي عدم تقلیده شرعاً بلزوم العوض و على هذا لابدّ من اختیار القول الأول.
شروط تحقّق الربا في الصلح
الشرط الأوّل: تعلّق الصلح بالعین
إنّ تحقق الربا مختصّ بما إذا كانت المعاوضة بین العینین، و یستفاد من هذا الشرط أنّ العوضین في البیع أو الصلح أو المعاوضة بالمعنی الأخصّ لابدّ من أن یكونا عینین حتّی یتحقّق الربا في العقد.
و یظهر من ذلك أنّ من طرق التخلّص من الربا هو الصلح بین هبة العینین. ((هو الطریق السابع عشر و سیأتي في الفصل الثاني عشر.))
الشرط الثاني: أن یكون الصلح بین المتجانسین
و قد تقدّم((تقدم في الفصل الثامن عند ذکر الشرط الأوّل خمس روایات صحیحة دالة على اشتراط اتحاد جنس العوضین.)) أدلّة ذلك في شرائط تحقق الربا المعاملي، فإنّ الأدلّة المذكورة لشرطیة كونهما متجانسین لا تختصّ بالبیع.
الشرط الثالث: أن یكونا ممّا یكال أو یوزن
و دلیل ذلك أیضاً لا یختصّ بالبیع. ((تقدم في الفصل الثامن عند ذکر الشرط الثاني ثماني روایات دالة على القول الأوّل و هو القول باشتراط کون العوضین مکیلاً أو موزوناً.))
ثلاث مسائل في الصلح الربوي:
المسألة الأُولى:
لایجوز الصلح في ما یكال و یوزن بین المتجانسین إذا كانا عینین مع التفاضل أو مع التماثل في ما إذا كان أحد الطرفین إلى أجل، لما تقدّم من أنّ «للأجل قسطاً من الثمن».
بیان الفقیه الأعظم السید أبي الحسن الإصفهاني(قدس سره):
إنّ السید الإصفهاني(قدس سره) قال بأنّ صلح دینٍ بدینٍ في الحالّین أو في المؤجّلین أو في ما إذا كان أحدهما حالّا ً و الآخر مؤجّلاً صحیح إلا في المتجانسين ممّا يكال أو يوزن مع التفاضل.
قال!: «يصحّ الصلح عن دين بدين حالَّين أو مؤجّلين أو بالاختلاف، متجانسين أو مختلفين سواء كان الدينان على شخصين أو على شخص واحد، كما إذا كان له على ذمّة زيد وزنة حنطة و لعمرو عليه وزنة شعير، فصالح مع عمرو على ماله في ذمّة زيد بما لعمرو في ذمّته، والظاهر صحّة الجميع إلَّا في المتجانسين ممّا يكال أو يوزن مع التفاضل، ففيه إشكال من جهة الربا.» ((وسیلة النجاة، السید أبوالحسن الإصفهاني(قدس سره)، ج2، ص85، مسألة 15.))
یلاحظ علیه:
إنّه على المبنی الذي ذهبوا إلیه یكون الصلح مع تحقّق الشروط الثلاثة عند تماثل الطرفین باطلاً أیضاً و ذلك في ما إذا كان أحد الطرفین إلى أجل؛ و الوجه في بطلان البیع هو استلزامه الربا؛ لما تقدّم منهم من أنّ للأجل قسطاً من الثمن.
و لعلّ مراد السید الإصفهاني(قدس سره) من التفاضل في قوله: «إلَّا في المتجانسين ممّا يكال أو يوزن مع التفاضل، ففيه إشكال من جهة الربا» أعمّ ممّا یكون التفاضل حكمیاً من جهة الأجل.
ولكن ذلك التوجیه خلاف الظاهر جدّاً؛ لأنّ الظاهر من التفاضل هو الزیادة العینیة و الأجل لیس من هذا القبیل.
المسألة الثانیة: الشك في التفاضل
إذا شك في التفاضل من جهة الجهل بالمقدار، فلا مانع من إیقاع الصلح بینهما بخلاف البیع، و ذلك لأنّ البیع یعتبر فیه التماثل بین مقدار طرفي المعاملة و أمّا الصلح فلا دلیل على اعتبار التماثل بین مقدار الجنسین فیه، فیقع فیه الصلح مع الشك في التفاضل عند الجهل بالمقدار.
قال الفقیه الأعظم السید أبو الحسن الإصفهاني(قدس سره): «لا إشكال مع الجهل بالمقدار و إن احتمل التفاضل، كما إذا كان لكلّ من شخصين طعام عند صاحبه لا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه فأوقعا الصلح على أن يكون لكلّ منهما ما عنده مع احتمال تفاضلهما.» ((وسیلة النجاة، السید أبوالحسن الإصفهاني(قدس سره)، ج2، ص85، مسألة 14.))
المسألة الثالثة: إسكوند الصَك (الشیك)
و هو بمعنی تنزیل الصك المؤجّل بالصك الحالّ، و ذلك ممّا تعارف في زماننا بأنحاء مختلفة فقد یكون بالبیع و قد یكون بالصلح و ثالثةً بالمعاوضة بینهما بمعناه الأخصّ.
و الكلام هنا في وقوعه بعنوان الصلح، و المسألة مبتنیة على أمرین:
الأول: جوازه بالإبراء عن الزیادة
و لا إشكال في ذلك إذا كان مرجعه إلى الإبراء عن الزیادة من الدین.
قال السید الإصفهاني(قدس سره): «نعم لو صالح عن الدين ببعضه كما إذا كان له عليه دراهم إلى أجل فصالح عنها بنصفها حالّا، فلا بأس به إذا كان المقصود إسقاط الزيادة والإبراء عنها والاكتفاء بالناقص، كما هو المقصود المتعارف في نحو هذه المصالحة لا المعاوضة بين الزائد والناقص.» ((وسیلة النجاة، السید أبوالحسن الإصفهاني(قدس سره)، ج2، ص85، مسألة 15.))
الثاني: الصلح بین هبة الصَّكین.
و ذلك لأنّ الشرط الأوّل لتحقّق الربا في الصلح تعلّقه بالعینین، فإذا تعلّق بالهبة فلا إشكال في البین.